الأحد، 29 يوليو 2012

وثيقة تسليم القدس للخليفة عمر بن الخطاب




يحق لنا أن نستذكر بهذه الأيام والليالي الكريمة موعظة نسأل الله  
بأن يكرم الأمة بعودة أمجادها محملتا بعبق الماضي الجميل ونسائم جنة الرحمن وكبرياء رجالها فقد طالت الغفوة حتى وطئتنا الأقدام بعد ماكنا نسير كالجبال والطود العظيم ....










وثيقة تسليم القدس للخليفة عمر بن الخطاب

للدكتور إبراهيم أحمد العدوي
جاء خروج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عاصمته بالمدين المنورة بالحجاز ليستلم بنفسه مفاتيح بيت المقدس في فلسطين ولتكون شاهداً عملياً قدّمه هذا الخليفة العظيم للأجيال العربية عن أصالة حقهم في هذه المدينة الخالدة، التي أسسها أجدادهم العرب القدامى من أهل فلسطين، ومثلاً تطبيقياً لما يجب أن ينهض به القومة على الأمة العربية – خالفاً عن سالف – في سبيل حماية مقدسات هذه المدينة من دسائس المتآمرين من اليهود الذين اشتهروا في التاريخ باسم دعاة الصهيونية، وحتى تظل هذه المدينة العربية الأصيلة – كعهدها، دائماً وأبداً – مدينة السلام، ذلك أن هذا الخليفة اختص بيت المقدس وحدها بهذا التكريم من دون المدن الأخرى التي فتحها المسلمون على عهده، وبادر إلى تلبية النداء الذين أعلن فيه أهل القدس، على رأسهم البطريق صفرنيوس، عن رغبتهم في أن يتسلم مدينتهم المقدّسة الخليفة شخصياً، دون غيره من قادة جيوش التحرير الإسلامية المجاهد في الشام وفلسطين.
كشفت سرعة استجابة الخلافة الإسلامية لمطالب أهل القدس عن تطور جديد في حياة هذه المدينة، قوامه أمران مهمان:
أولهما: أن كبار أهل الحل والعقد من الصحابة، وهم الهيئة التنفيذية العليا التي ضمها في الدولة الإسلامية إذ ذاك "مجلس الشورى" قد أكدت بتأييدها خروج الخليفة لاستلام القدس ارتباط الأصول الدينية لهذه المدينة بالدين الإسلامي الجديد، وأن واجب الدفاع عن تلك المقدسات وأصولها هو دفاع عن الدين الإسلامي نفسه.
وثانيهما: أن الخليفة أراد أن يؤكد من جانبه أن تحرير القدس لم يتم إلا بتحرير فلسطين، وأن الموقف بات يتطلب توليه القيادة العليا بنفسه لجيوش التحرير في اشام وفي فلسطين، على أسا أن الجهاد في سبيل تلك الأرجاء هو جهاد مقدس يجب أن يسهم فيه على قدم المساواة جميع أبناء الدولة العربية الإسلامية، كبيرهم وصغيرهم، طلباً للعزة في الدنيا، والفوز بجنات النعيم في الآخرة.
وكانت التقارير التي وصلت من قادة الجيوش الإسلامية في الشام وفلسطين إلى عاصمة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة تحض على سرعة خروج الخليفة بنفسه لتحرير القدس وفلسطين. ذلك أن أعداء المسلمين هناك، وهم البيزنطيون، الذين عرفهم العرب باسم الروم، قد صمموا أمام زحف الجيوش الإسلامية المظفر على الانسحاب من كبرى مدن الشام وفلسطين واتخاذ مدينة بيت المقدس قاعدة يعيدون فيها تعبئة قواتهم لإفساد التقدم الإسلامي، باستغلال مناعة هذه المدينة المقدسة، وكان صاحب هذه الخطة البيزنطية هو "أرتيون" قائد الروم الذي اشتهر عند العرب باسم "الأرطبون"، وبادر الخليفة عمر بن الخطاب بتوجيه عمرو بن العاص لمحاربة هذا القائد قائلاً: "قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب"، غير أن قائد الروم انسحب امام جيش عمرو بن العاص عند أجنادين ولجأ بقواته إلى بيت المقدس، حيث أفصح عن خطته في التصدي للمسلمين.
وأعلن "أرطبون" الروم من قاعدته في بيت المقدس عن خطته الخبيثة في كتاب بعث به إلى عمرو بن العاص في أجنادين جاء فيه: "إلى عمرو: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة". وكتب عمرو بن العاص إلى الخليفة يوضح  له الموقف الجديد في القدس وفلسطين قائلاً له: "إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً، وبلاداً ادخرت لك، قرأيك" – ولما كان الخليفة عمر يثق كل الثقة في تقارير عمر بن العاص فإنه بدأ يستعد للخروج بنفسه لتحرير هذه البلاد التي ادخرها الله له، كما ذكر قائده المحنك في أرض فلسطين.
وعزز هذه الاستعدادات في عاصمة الخلافات التقارير التي وردت بدورها من أبي عبيدة بن الجراح القائد العام للجيوش الإسلامية في الشام. إذ أراد هذا القائد أن يبعث بجيوشه من دمشق إلى فلسطين لشد أزر عمرو بن العاص، وعقد مجلساً حربياً للتشاور في الأمر، ولتقرير الجبهة التي تتجه إليها تلك الجيوش. إذ كان أمام هذا القائد العام خطتان: إحداهما أن تتوجه الجيوش أولاً: لفتح قيسارية التي كان بقاء جند الروم فيها يحول دون انطلاق عمرو بن العاص من أجنادين، والثانية: تنادي بأن تزحف الجيوش مباشرة إلى بيت المقدس للحيلولة دون استقرار "الأرطبون" وقواته بها.
واستقر رأي المجلس الحربي على ضرورة استشارة الخليفة عمر بن الخطاب في هذا الشأن حيث قال معاذ بن جبل لأبي عبيدة: أيها الأمير اكتب إلى أمير المؤمنين عمر فحيث أمرك امتثله. فقال أبو عبيدة: أصبت الرأي يا معاذ.
ثم كتب إلى الخليفة شارحاً له الموقف، وجمع عمر بن الخطاب "مجلس الشورى" من كبار الصحابة، وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة، فقال علي بن أبي طالب بعد مداولات واسعة، تبلور فيها الموقف: "يا أمير المؤمنين مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فإن فتح الله بيت المقدس صرف وجهه إلى قيسارية، فإنها تفتح بعد إن شاء الله تعالى". وعندئذ كتب الخليفة بهذا الرأي الذي استقر عليه مجلس الشورى لأبي عبيدة جاء نصه كما يلي:
"أما بعد – فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه، وقد وصلني كتابك تستشيرني إلى أنا ناحية تتوجه، وقد أشار ابن عم رسول الله بالمسير إلى بيت المقدس، فإن الله يفتحها على يديك، والسلام".
وهلل جند المسلمين فرحاً في الشام لزحفهم على بيت المقدس، وتقدموا وعلى رأسهم القائد العام أبو عبيدة بن الجراح، وحين اقتربت الجيوش الإسلامية من هذه المدينة أعلن سكانها العصيان على "الأرطبون"، وعرضوا على أبي عبيدة رغبتهم في تسليم مدينتهم إلى الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، وبعث القائد العام بهذا الطلب إلى الخليفة الذي عقد "مجلس الشورى" مرة أخرى قائلاً لهم: "ما ترون رحمكم الله فيما كتب إلينا أمين هذه الأمة!"، واستقر الرأي على تلبية طلب أهل القدس، وأتم الخليفة الاستعداد للخروج إلى فلسطين، حيث بات لديه علم دقيق بأحوالها من مصدرين مهمين:
أحدهما: من عمرو بن العاص، والآخر: من أبي عبيدة بن الجراح، وكل منهما يؤكد ضرورة حضوره بذاته إلى تلك البلاد التي ادخر الله فتحها على يديه، وحين ترامت أنباء مسير عمر بن الخطاب بذاته إلى فلسطين انسحب "الأرطبون" سريعاً من بيت المقدس حيث عجز عن المقام بها لعدم تعاون سكان البلدة معه، واتجه إلى مصر حيث كانت إذ ذاك تحت سيطرة الروم.
وكان الطريق الذي سلكه الخليفة عمر بن الخطاب للذهاب إلى بيت المقدس يسير وفق خطة رسمها بنفسه، استهدف منها أن تبقى أمام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين منهم بإحسان إلى يوم الدين نموذجاً يهديهم سواء السبيل، من أجل الحفاظ على هذه المدينة المشرفة، ورعاية مقدساتها الجليلة، إذ جمعت تلك الخطة بين الاستعداد الحربي الكامل وبين الالتزام بالبساطة التامة البعيدة عن الزهو والخيلاء، فغادر الخليفة المدينة المنورة متجهاً إلى "أيلة" وهي العقبة الحالية باعتبارها مفتاح المدخل الجنوبي لفلسطين.
ثم سار إلى الجابية من مرتفعات الجولان  الحالية، حيث جعل من هذا المكان الاستراتيجي بين سورية وفلسطين مقراً لعقد مؤتمر حربي استدعى إليه قادة الجند بالشام للتشاور معهم في طلب أهل القدس، ووضع أمثل السبل لإتمام فتح فلسطين.
وتوجه أبو عبيدة بن الجراح القائد العام للجيوش الإسلامية بالشام إلى الجابية حيث التقى الخليفة عمر بن الخطاب هناك وتعانقا، ثم توافد على الخليفة من يحضرون صلاة الفجر وخطبهم، ثم تدارس مع القائد العام الوضع في بلاد الشام، حتى حضرت صلاة الظهر، حيث جرت في خشوع جليل، روى ذلك أحد شهود العيان قائلاً: "فأذن بلال في ذلك اليوم، فلما قال: الله أكبر، خشعت جوارحهم، واقشعرت أبدانهم، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، بكى الناس بكاء شديداً عند ذكر الله ورسوله، وكاد بلال أن يقطع الاذان، فلما فرغ من الأذان صلى عمر رضي الله عنه بالحاضرين".
وجرت وسط هذه المظاهر الجليلة جلسات المؤتمر الحربي بالجابية تحت رئاسة الخليفة للنظر في شأن القدس، وحضر في ذلك الوقت وفد شعبي يمثل أهالي القدس لمقابلة الخليفة عمر وتسليم بلدتهم له، وجاء تشكيل هذا الوفد على تلك الصورة دلالة واضحة على أن انسحاب الروم من بيت المقدس كان أمراً حتمياً فرضته الرغبة الشعبية في هذه المدينة على أولئك المستعمرين البغاة، وشاهداً قوياً على أن أهالي القدس وجدوا في الدولة العربية الإسلامية الفتية ينبوعاً دافقاً يغذي أصولهم العربية، ويهيئ لهم استعادة سالف أمجاد مدينتهم وأمنها، وكان أهم مطلب ركّز الوفد الشعبي عليه هو ألا يساكنهم مدينتهم أحد من اليهود، الذين اشتهروا بمحاولتهم العديدة اغتصاب هذه المدينة، وإثارة القلاقل فيها ضد السلطات الحاكمة تحت ستار الاحتماء بقدسية تلك المدينة، وكان أخطر محاولات اليهود التي شهدها أهالي القدس سنة 135م، إذ قاموا بأعمال شغب واسعة في القدس، دفعت هذا الامبراطور إلى الإسراع بنفسه إلى بتي المقدس، وطرد اليهود منها كلية، وبلغ الحنق بهذا الامبراطور حداً دفعه إلى أن يطلق على بيت المقدس اسمه الأول، وصارت تدعى نسبة إليه باسم "إيلياء"، وذلك رغبة في سد السبل نهائياً أمام اليهود لاستغلال اسم هذه المدينة المقدّسة.
وظلت مدينة بيت المقدس تحمل اسم "إيلياء" حين خرج الوفد الشعبي من أهلها لمقابلة الخليفة  عمر بن الخطاب، وطلبوا منه أن يسجل إليه الاسم في وثيقة تسليم مدينتهم له، دلالة على خلوها تماماً من اليهود، وإصراراً منهم على ألا يساكنهم فيها أحد من اليهود، وكان هذا المطلب الشعبي لأهل القدس هو المطلب نفسه الذي أصرّ عليه البطريق "صفرنيوس" حين عرض تسليم المدينة المقدّسة للخليفة عمر ابن الخطاب شخصياً، ووافق الخليفة على مطالب أهل القدس وسجلها في وثيقة محددة البنود، أضاف إليها شروطاً تنص على احترام مقدسات هذه المدينة وما يكفل لها السلام أيضاً من بقايا الروم فيها وعملائهم، وجاء نص هذه الوثيقة التاريخية المؤكدة لخلو القدس من اليهود وارتباطها بأصولها العربية، وكذلك بالدين الإسلامي الجديد على النحو التالي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان.
أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها.
أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.
ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي  أهل المدائن.
وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت "أي اللصوص".
فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.
ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.
ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.
وكتب وحضر سنة خمس عشرة.
وكشفت هذه الوثيقة التاريخية بنصوصها الصريحة عن حقيقتين راسختين.
أولهما: أن اليهود لم يكن لهم وجود على الإطلاق في بيت المقدس حين زحفت الجيوش الإسلامية على بلاد الشام، وأن أهالي القدس أنفسهم كانوا يقفون قبل الإسلام بالمرصاد لدسائس منحر في اليهود، وهدم ما زعموه بهتاناً من حقوق لهم في هذه المدينة المقدّسة، وأن الإسلام حين امتد إلى أرض فلسطين جاء ليدعم هذه الحقيقة التاريخية ويؤكدها بخصوص خلو بيت المقدس تماماً من اليهود.
ثانيهما: أن المسلمين يكنون للمقدسات المسيحية في البيت المقدس الإجلال نفسه الذي يكنه المسيحيون لتلك المقدسات، وأن المسلمين يجدون فعلاً في النصارى أقرب مودة إليهم، وأهلاً للتعاون في رغاية المقدسات الدينية في هذه المدينة الخالدة.
وعاد الوفد الشعبي إلى بيت المقدس من الجابية يحمل هذه الوثيقة التاريخية، ويستعد لاستقبال الخليفة في المدينة المقدسة، وكان الخليفة يستعد لهذه الزيارة استعداداً يجعل منه نموذجاً علمياً أمام المعاصرين وغيرهم من الأجيال العربية وغير العربية على مر العصور عن إيمان المسلمين بمكانة بيت المقدس في الدين الإسلامي الجديد، والتطبيق العملي لاحترام المسلمين لمقدسات هذه المدنية، فعمد الخليفة – أولاً – إلى تأمين بيت المقدس وسائر ديار فلسطين من أي هجوم غادر قد يشنه الروم إذ أقام حامية في إيلياء بقيادة علقمة بن مجزر، وأخرى في الرملة بقيادة علقمة بن حكيم، على حين ضم إليه في الجابية عمر بن العاص وشرحبيل بن حسنة وغيرهم من القادة العاملين في تحرير أرض فلسطين.
وغادر عمر بن الخطاب مقره في الجابية عن طريق مرتفعات الجولان إلى بيت المقدس في موكب جمع بين المهابة والجلال والبعد التام عن مظاهر الزهو والخيلاء، ووصف أحد المعاصرين هذا الموكب قائلاً: إن الخليفة حين جاء ميعاد زيارة بيت المقدس أمر الناس بالركوب، ومعظمهم من قادة الجند والصحابة الأجلاء، ولما هم الخليفة بالركوب على بعيره وعليه مرقعة الصوف قال المسلمون: يا أمير المؤمنين، لو ركبت غير بعيرك جواداً، ولبست ثياباً لكان ذلك أعظم لهيبتك في قلوب القوم، وأقبلوا يسألونه ويطوفون به إلى أن أ<ابهم إلى ذلك، ونزع مرقعته، ولبس ثياباً بيضاء. قال الزبير: أحسنها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهماً، وطرح على كتفه منديلاً من الكتان، دفعه إليه أبو عبيدة، وقدم له برذوناً أشهب، فلما صار عمر فوقه جلع البرذون يهملج (أي يسير عجباً). وعندئذ نزل الخليفة مسرعاً وضرب وجه البرذون، وقال: لا علم الله من علمك!، هذا من الخيلاء، ولم يركب برذوناً قبله ولا بعده، ثم صاح بالناس قائلاً: أقيلوني عثرتي أقالكم الله عثراتكم يوم القيامة، لقد كاد أميركم يهلك مما داخله من الكبر ثم إنه نزع البياض، وعاد إلى لبس مرقعته وركوب بعيره، فعلت ضجة المسلمين بالتهليل والتكبير.
ودخل موكب الخليفة عمر بن الخطاب مدينة بيت المقدس يوم الخميس الموافق 3 مايو سنة 636م، حيث استقبله زعماء المدينة وعلى رأسهم البطريق "صفرنيوس"، وسط مظاهر الحفاوة من السكان جميعاً، واستهل الخليفة زيارته بمشاهدة الأماكن المقدسة، والكنائس الكبيرة في القدس، حيث تولى البطريق "صفرنيوس" شرح تاريخ تلك المشاهد الدينية، وحرص الخليفة طوال هذه الزيارة على دعم حقوق المسيحيين في مقدساتهم وتجنب كل ما قد يثير الريب حولها، إذ تصادف أن حل ميعاد الصلاة، وهو يزور كنيسة القيامة، وسأل البطريق عن مكان يصلي فيه، فلما أجابه البطريق: صل مكانك – أيها الخليفة – خرج من الكنيسة، وصلى في مكان بالقرب منها، ولما أتم الصلاة قال للبطريق: أيها الشيخ، لو صليت في كنيسة القيامة لاتخذها المسلمون معبداً لهم.
وكان الخليفة حريصا ًأيضاً في تلك الزيارة على مشاهدة معالم المسجد الأقصى الذي حمل له صورة واضحة عن الرسول الكريم ليلة الإسراء والمعراج، وكذلك مشاهدة الصخرة المقدسة، وتكرر وقوف الركب في أماكن عدة التبس على البطريق نفسه أنها المسجد الأقصى، ولكن الخليفة أعلن في كل مرة أن أوصاف تلك الأماكن لا تنطبق على ما تعيه ذاكرته من الأوصاف التي نقلها عن الرسول الكريم، وكان موقع المسجد الأقصى والصخرة المقدّسة قد تعرض للإهمال في الأيام الأخيرة من حياة القدس في ظل استعمار الروم، وغدا بقعة تغطيها القمامة، وحين اقترب الركب من هذا المكان، بدأ الخليفة فحص معالمه بنفسه، وتأكد أنه المكان المبارك. وعندئذ أخذ الخليفة – كما وصف أحد المرافقين له – يحثو القمامة في كمه ويذهب ليلقيها في وادي النار "قدرون" الواقع شرق المكان، فاقتدينا به وحثونا كما مرات كثيرة حتى ظهر المكان، وتطهّر واتضحت معالمه، كما ظهرت الصخرة المباركة وتطهرت.
وأمر الخليفة ببناء مسجد في هذا المكان، بحيث كانت الصخرة في الخلف، ولتكون القبة في صدر المسجد، دفعاً لأي شبهات قد تثار حول هذا المسجد الإسلامي، وشرح الخليفة ما قام به مؤكداً أنه جعل رائده "كما جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبلة مساجدنا صدورنا" ثم أضاف الخليفة قوله: "فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة".
وصلى الخليفة بالحاضرين، بعد أن أمر المؤذن بإقامة الصلاة، وقرأ سورة (ص) وسجد فيها، ثم قام وقرأ في الثانية سورة (الإسراء)، وجاءت تلاوة هذه الآيات البينات إعلاناً رسمياً عن ربط الأصول الدينية للقدس الشريف بالدين الإسلامي الجديد، وبالقوامة عليه من أبناء الأمة العربية، وأمضى الخليفة عشرة ايام في القدس، قام فيها بأعمال جليلة غدت تكون العهد الجديد للقدس في ظل حماية العروبة والإسلام، كما ترك في يد أبناء هذا البلد الشريف وثيقة تاريخية تدعم حقهم في صيانة بلدهم، وجعلها على مر العصور مدينة عربية وخالصة، رائدها -  كما كانت منذ نشأتها على يد سكانها من العرب القدامى – أن تكون "مدينة السلام".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق